الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الهادي الامين وبعد:
في هذا الزمان المدلهم بالفتن المتتابعة والمتراكبة فوق بعضها البعض كأموج البحر المظلم, والذي لا يكاد أن تنقشع فتنة عنه حتى بدت فتنة أشد وأكبر, في هذا الزمان الذي وُكل الأمر لغير أهله, في زمن ٍ نطق فيه الرويبضة , زمن غربة الدين, وضياع الأمانة وتخوين الأمين, كان من اكبر الفتن هي فتنة العلماء, ولم يعد الطاهر قلبا والصادق دينا يميز الحق واهل الحق. فلا يدري هل الحق مع عالم عينه طواغيت العصور, أم مع عالم مجاهد مرابط في الثغور , ام شيخ مقبل على الدنيا مالك للدور والقصور, ام عالم في الزنازين يذوق العذاب والهون.
في هذا الزمان الذي لعب فيه الاعلام بعقول البشر وغير حتى الفطر, يرفع من يريد , ويخفض من يريد, والناس متابعين مرة في اقصى اليسار ومرة في اقصى اليمين.
كتبت هذا البحث بشكل مبسط واعتمدت فيه على كتاب ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911 هـ. مبين فيه بعض الشبه وميزان القياس للعلماء ,عسى الله ان ينفع به المسلمين في كل مكان,انه ولي ذلك والقادر عليه.
ميزان العلماء
إن للعلماء ثقلا كبيرا في المجتمع ,كيف لا ؟ وهم الهداة المهدين,وهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، هم من عكف على كتاب الله وسنة نبيه, ناموا على كتب السلف الصالح والجيل الناصح.
وغيبتهم خطيئة , بل هي كبيرة وأيما كبيرة, فغيبة عام من عوام المسلمين مهلكة,فكيف بعلم من اعلام الأمة, لا اراها إلا الماحقة.
إن مكانتهم ليس لأشخاصهم بل لما حملوه من علم, بلغوا الأمانة وعلموا الناس الحديث والآية. فما ارتقوا تلك المكانة إلا بنقلهم العلم والصدع بالحق, وما كانوا ورثة الأنبياء الا لمشابهتهم لهم, والسير على خطاهم, وتبليغ شريعة المنان, من غير تدليس او تنقيص او كتمان, منافحين مدافعين لا يخافون في الله لومة لائم. وأما الدخلاء فسقوطهم سريع , ونسيانهم أكيد, فكم مر على الأمة من أسماء في الأربعة عشر قرن ٍ الماضية,لم يبقى إلا الربانين ,بكتبهم وعلومهم وذكرهم الحسن ,وسيرتهم العطرة, والآلاف غيرهم من علماء السلاطين,وعلماء الدرهم والدينار سقطوا وسقطت كل مؤلفاتهم. ولذا وجب ان نبين الفرق بين العلماء على ضوء الكتاب والسنة, فمن رضي رضي ومن سخط سخط, وحتى يعرف الناس هل عبادته لله ام عبادته لعالم او سلطان.
قول ابن عساكر "لحوم العلماء مسمومة".
قال الإمام الحافظ ابن عساكر: (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فمن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب).
وهذا القول الجميل من الاقوال المشهورة والذي استخدمه الجهلاء والمدلسين وحملوه ما لا يحتمل , فقبل اسقاط الاقول على الافعال , دعونا نقرأ ما ميزان العلماء عند ابن عساكر فقط,مع ان الكتاب الذي نقلت منه مليء بأقوال كبار العلماء وكبار الصحابة والتابعين.
1-أخرج ابن عساكر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: « سيكون قوم بعدي من أمتي، يقرؤون القرآن، ويتفقهون في الدين، يأتيهم الشيطان، فيقول: لو أتيتم السلطان، فأصلح من دنياكم، واعتزلوهم بدينكم! ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد، إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا ».
فوائد من الحديث:
أ-ان اتيان السلطان هو من عمل الشيطان ووسوسته للعلماء والقراء.
ب-إن العالم او القاريء لا يجني من قربه للسلطان الا الخطايا.
2-أخرج ابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أبعد الخلق من الله، رجل يجالس الأمراء، فما قالوا من جور صدقهم عليه ».
3-أخرج ابن عساكر، من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا أبو حازم أن سليمان بن هشام بن عبد الملك قدم المدينة فأرسل إلى أبي حازم فدخل عليه فقال: فسلمت وأنا متكئ على عصاي فقيل ألا تتكلم!؟ قلت: وما أتكلم به!؟ ليست لي حاجة فأتكلم فيها، وإنما جئت لحاجتكم التي أرسلتم إليّ فيها، وما كل من يرسل إلى آتيه، ولولا الخوف من شركم ما جئتكم. إني أدركت أهل الدنيا تبعا لأهل العلم حيث كانوا، يقضي أهل العلم لأهل الدنيا حوائج دنياهم وأخراهم، ولا يستغني أهل الدنيا عن أهل العلم لنصيبهم من العلم ثم حال الزمان، فصار أهل العلم تبعا لأهل الدنيا حيث كانوا، فدخل البلاء على الفريقين جميعا. ترك أهل الدنيا النصيب الذي كانوا يتمسكون به من العلم حيث رأوا أهل العلم قد جاؤوهم، وضيّع أهل العلم جسيم ما قسم لهم باتباعهم أهل الدنيا ».
4-وأخرج ابن أبي الدنيا، والخرائطي، وابن عساكر، عن زمعة بن صالح، قال: كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم أن يرفع إليه حوائجه، فكتب إليه: « أما بعد فقد جاءني كتابك بعزم أن ترفع حوائجي إليك وهيهات! رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني منها رضيت ».
5-أخرج ابن عساكر، عن عبد الجبار بن عبد العزيز أبي حازم عن أبيه، عن جده: أن سليمان بن عبد الملك دخل المدينة، فأقام بها ثلاثا. فقال: ههنا رجل ممن أدرك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحدثنا؟ فقيل له: بلى ههنا رجل يقال له أبو حازم فبعث إليه، فجاءه، فقال له سليمان: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني!؟ قال أبو حازم: إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا أو تعسوا أو تنسكوا ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لم تزل الأمراء تهابهم ».
6-أخرج البيهقي، وابن عساكر، عن زمعة بن صالح قال: قال الزهري لسليمان أو هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال يا أبا حازم: ما قلت في العلماء؟ قال: « وما عسيت أن أقول في العلماء إلا خيرا، إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعملهم عن أهل الدنيا، ولم تستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم فلم يستغنوا به واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم.. فلما رأوا ذلك، قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئا، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة ».
7-أخرج أبو نعيم، ابن عساكر، عن يوسف بن أسباط قال: أخبرنا نجم: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي، والزهري وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم فقال أبو حازم: « إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء. وكانوا فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء. فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء! وطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم فخربت العلماء على الأمراء، وخربت، الأمراء على العلماء.
8-أخرج البيهقي في « الزهد »، وابن عساكر، عن سفيان: قال: قال بعض الأمراء لأبي حازم: ارفع إلي حاجتك قال: هيهات! هيهات! رفعتها إلى من لا تختزن الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عني منها رضيت، كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منه، وأن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره، أتوا به أبواب السلاطين، والسلاطين يفرون منهم، وهم يطلبونهم ».
9-أخرج ابن عساكر، عن محمد بن عجلان المدني، قال: أرسل سليمان بن هشام إلى أبي حازم، فقال له: تكلم! قال: « ما لي من حاجة أتكلم بها، ولولا اتقاء شركم ما جئتكم لقد أتى علينا زمان وإنما الأمراء تطلب العلماء فتأخذ مما في أيديهم فتنتفع به، فكان في ذلك صلاح للفريقين جميعا، فطلبت اليوم العلماء الأمراء وركنوا إليهم واشتهوا ما في أيديهم، فقالت الأمراء ما طلب هؤلاء ما في أيدينا حتى كان ما في أيدينا خيرا مما في أيديهم، فكان في ذلك فساد للفريقين كليهما » فقال سليمان بن هشام: صدقت.
10-أخرج ابن عساكر، من طريق أبي قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي قال: حدثنا أبو سعيد الأصمعي، عن أبي الزناد، عن أبيه، قال: « كان الفقهاء كلهم بالمدينة يأتون عمر بن عبد العزيز، خلا سعيد بن المسيب، فإن عمر كان يرضى أن يكون بينهما رسول، وكنت الرسول بينهما.
11-أخرج ابن عساكر، عن الأوزاعي، قال: قدم عطاء الخراساني على هشام بن عبد الملك فنزل على مكحول، فقال عطاء لمكحول: ههنا أحد يحركنا؟ - يعني يعظنا - قال: « نعم، يزيد بن ميسرة فأتوه، فقال له عطاء: حركنا رحمك الله، قال: نعم، كانت العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا » قال: أعد علي، فأعاد عليه. فرجع ولم يلق هشاما.
12-أخرج الخطيب وابن عساكر، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة، فبينا أنا عنده جالس، إذ دق داق الباب فقال: « يا صبية أخرجي فانظري من هذا! فقالت: هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي - وهو أمير البصرة والكوفة - قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: « بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها » فقال: « يا صبية هلمي الدواة! » ثم قال: لي: « اقلب الكتاب وكتب: أما بعد فقد صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام » فبينما أنا عنده، إذ دق داق الباب فقال: « يا صبية أخرجي فانظري من هذا! » قالت: « هذا محمد بن سليمان، قال: « قولي له يدخل وحده » فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا!؟ فقال حماد: « سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد به أن يكثر به الكنوز، هاب من كل شيء » وذكر بقية القصة.
13-ونظير هذا ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريق البيهقي، عن الحاكم قال: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر، نبأنا علي بن الحسن بن حبيب الدمشقي، قال: سمعت الناقوسي، وكان من أهل القرآن والعلم، قال سمعت محمد بن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: « كان لي صديق يقال له حصين، وكان يبرني ويصلني فولاه أمير المؤمنين السيبن، قال فكتب إليه:
14-وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن زيد بن أسلم قال: كنت مع أبي حازم فأرسل إليه عبد الرحمن بن خالد الأمير أن ائتنا حتى نسألك وتحدثنا. فقال أبو حازم: « معاذ الله أدركت أهل العلم لا يحملون العلم لأهل الدنيا فلن أكون أول من فعل ذلك فإن كان لك حاجة، فأبلغنا » فأرسل إليه عبد الرحمن قد ازددت عندنا بهذا كرامة.
وبعد هذا الكلمات النيرة والوقفات العابرة,أسأل كل من أنزل كلام ابن عساكر بأن لحوم العلماء مسمومة على من يريد.هل أنزلها على علماء رغبوا عن السلطان وتركوا الدنيا والمال , لا يخافون في الله لومة لائم, أم على علماء لازموا السلطان وداهنوا الأمراء, سكنوا فاخر الدور والقصور .
فإن كانت الأولى فبارك الله فيك وزادك الله ثباتا على الحق والدين,وإن كانت الأخرى فاتقي الله يامن كذبت على الله ورسوله وعلى علم من أعلام الأمة, واغتبته بإنزال كلامه على كل قبيح.
[/center]
[/center]