بسم الله الرحمن الرحيم
قال ــ تعالى ــ في كتابه العزيز:
" إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ". (1)
اختلف كثيراً في تأويل كلمة "قمتم"، فقال بعض أن المقصود بها إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وعليه يترتب على المصلي الوضوء لكل صلاة(2)؛ وقال بعضٌ آخَر أن المقصود بها القيام من النوم إلى الصلاة(3)، وقال آخرون بأن المعنى المباشر لكلمة القيام فيما يخص الوضوء لكل صلاة منسوخ بدليل أن النبي ــ ص ــ صلى أكثر من صلاة بوضوء واحد، وعليه فإن المقصود بقوله إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثين(4).(5)
قال ابن حجر بخصوص هذه الآية الشريفة :
"قال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب، وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوباً". (6)
وهذه وقفة سريعة على وجوه تأويل كلمة "قمتم":
ونبدأ بالقول أن المقصود بقوله "إذا قمتم إلى الصلاة": إذا أردتم القيام إلى الصلاة، بغضِّ النظر عما إذا كان وضوء المرء قد انتُقض أم لا. فنقول:
إذا أُخذ معنى الآية على النحو الذي ذُكر فهذا يعني أنه يجب الوضوء على كل مسلم أتى من الغائط سواء أكان هناك وقت صلاة أم لا، وذلك إذا راعينا تتمة الآية المعطوفة على ما سبقها(7)، وهذا المنحى من التأويل فيه نظر عند الجمهور! ولا شك أن الذي يتوضأ تطوعاً وهو على طهرٍ خير ممن لا يتوضأ إلا إذا انتُقضَ وضوؤه، وله أجر إضافي كما في حديث ابن عمر عن رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: " مَن توضَّأ على طهرٍ كُتب له عَشر حسناتٍ "(8).(9) ولكن، التطوع وثوابه شيء، والواجب وأجره شيء آخر. وعموماً، يُستشف من حديث رسول الله ــ ص ــ في الوضوء على طهر أنه يخص القيام بالصلاة المفروضة، والله أعلم.
أما القول أن المراد بقوله "إذا قمتم إلى الصلاة" هو: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، ففيه نظر من حيث وجود كلمة "الغائط" في تتمة الآية معطوفة على ما سبقها! وتجدر الإشارة إلى أنني بحثتُ في القواميس فلم أجد معنى صريح لكلمة أحدث على أنه تغوَّط إلا في المنجد في اللغة! وكما هو معروف عند المحققين فإن كلمة الغائط تعني في الأصل المطمئن من الأرض والمنخفض منها، وهي الأمكنة التي كانت تقصد فيما سبق لقضاء الحاجة. (10)
بقي هناك التأويل الثالث، وهو أن المراد بقوله "إذا قمتم إلى الصلاة" هو: إذا قمتم من النوم.
أقول:
لعل هذا التأويل هو الأكثر دلالة، في القرآن الكريم، على وجوب الوضوء إذا نام المرء أثناء راحته ولو كبوة قصيرة؛ ولكن هل يمنع هذا الاستدلال اللطيف وجود وجه آخر أعمق إشارة من هذا الوجه؟!
ورد عن نبينا الكريم ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ أنه قال:
" يا أنس، أكثِرْ من الطهور يزِدِ اللهُ في عمرك، وإنْ استطعتَ أنْ تكون في الليل والنهار على طهارة فافعل، فأنت تكون إذا متَّ على طهارةٍ شهيداً ". (11)
إذاً، القيام إلى الصلاة يستوجب الوضوء لمَن انتُقض وضوءه، ويُجمِّل ذلك القيام لمَن كان على طهر تجديد الوضوء؛ فالصلاة لقاء مع رب العالمين، ولهذا اللقاء رونقه الخاص، ولذلك كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسائر الخلفاء الراشدين يتوضؤون لكل صلاة(12).
أما عن العلة التي من أجلها فرض الله الوضوء فيقول الإمام علي بن موسى الرضا، حفيد رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ:
" إن علة الوضوء التي من أجلها صار على العبد غسل الوجه والذراعين، ومسح الرأس والقدمين، فلقيامه بين يدي الله ــ تعالى ــ، واستقباله إياه بجوارحه الظاهرة، وملاقاته بها الكرام الكاتبين؛ فيغسل الوجه للسجود والخضوع، ويغسل اليدين ليقلِّبهما ويرغب بهما ويرهب ويتبتل، ويمسح الرأس والقدمين لأنهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما كل حالاته، وليس فيهما من الخضوع والتبتل ما في الوجه والذراعين ". (13)
[/center]