منذ بضعة أسابيع طرح فضيلة المفتي على الرأي العام مشروعا يدعو فيه إلي إحياء قضية الوقف الإسلامي من خلال دعوة الناس للتبرع مساهمة في حل بعض مشكلات شعبنا المصري المتفاقمة مثل البطالة أو العنوسة أو ما شابه ذلك وتشكيل لجنة غير حكومية أعضاؤها أناس يثق الناس في أمانتهم ونزاهتهم للإشراف على هذا المشروع وكان يمكن لمثل هذا المشروع أن يثير كثيرا من القضايا الصحفية الصالحة للطرح والنقاش من خلال المقالات والتحقيقات الصحفية والبرامج الحوارية لدعمه أو معارضته أو مناقشة مفرداته. وإثراء الأفكار من حوله.. فهو مشروع يطرح قضايا إسلامية واجتماعية واقعية كثيرة فمثلا يمكن مناقشة المشروع من خلال دور المجتمع المدني في الفكر الإسلامي في التفاعل مع المجتمع وقضاياه وأزماته وكيفية تحقيق المشاركة الإيجابية في حلها.
ويمكن أن يطرح أيضا فكرة الوقف على أعمال الخير – وهو أسلوب في أعمال البر انفرد به النظام الإسلامي – ودور هذا الأسلوب في أعمال الخير في المشاركة في حل مشاكل المجتمع المسلم ويمكن أيضا أن يطرح قضية استيلاء الدولة على الأوقاف الخيرية في الخمسينات من القرن الماضي ونقل إشرافها على شئون الوقف إلي وزارة الأوقاف – على غير رغبة الواقفين لهذه الموقوفات – وتصرف الوزارة في الأوقاف بطريقة فرغت فكرة الوقف عن مضمونها وجعلت أهل الخير يحجمون عن سلوك هذه الطريق الشرعي للبر وفي الوقت الذي أعادت فيه الحكومة الأوقاف المسيحية للكنيسة لتزداد استقلالا عن الدولة لم تفعل ذلك في الوقف الإسلامي لتظل المؤسسة الدينية تعود في احتياجاتها إليها.
وكان يمكن أيضا أن تطرح قضية النظرة الإسلامية للتعاون المثمر بين أفراد المجتمع والحكومة في حل المشكلات المستعصية للبلاد بدلا من إلقاء التبعة على الحكومة بينما تحمل الحكومة من الأثقال ما يفوق طاقتها.
كل هذه القضايا وقضايا أخري كثيرة كان يمكن أن يطرحها مشروع المفتي وهي قضايا جادة ومثيرة يمكن أن تفيد مناقشتها الناس وتشجع فيهم روح الإيجابية تجاه مجتمعاتهم وقضاياهم.
ولكن هذا الموضوع لم يثر السادة الإعلاميين ولم يجذبهم للحديث فيه لعله بسبب أنه يطرح الإسلام بطريقة جادة كمساهم في حل مشاكل المجتمع أو لعله بسبب افتقار هذه الأفكار للإثارة والغرابة الكافية لجذب القراء أو لأي سبب آخر وهكذا تجاهل الإعلاميون مشروع المفتي وقتلوه إعلاميا. اللهم إلا من مقالة هنا أو هناك.
ثم .. ومنذ أيام ارتفع الضجيج الإعلامي ارتفاعا كبيرا حول فتوى لفضيلة المفتي عن بول النبي صلي الله عليه وسلم وفضلاته والتبرك بها وهل هي نجسة أم طاهرة.
والقصة من بدايتها أن أحدهم سأل المفتى عن هذا الموضوع وهو موضوع تداولته بعض الكتب التي تحدثت فى صفات وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم فى عصور الترف الفكري من خلال حديث صحيح يروى أن السيدة أم أيمن رضي الله عنها شربت من قعب كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذه للتبول فيه ليلا وهى تظن أنها تشرب ماء ولم تنتبه إلى أنه بول .
فلم يحدث أن الصحابة كانوا يجمعون بوله ليتبركوا به كما زعم البعض ولم يحدث أن تناول أحد الحديث فى خير القرون عن التبرك بالبول النبوي ولم يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنزه من بوله لأنه طاهر بل كان يستنجى منه ويغسل ثوبه إن أصابه منه شيء مثل أي مسلم .
ولكن – ولا أدرى لماذا – اختار المفتى أن يجيب السائل بأن بوله صلى الله عليه وسلم طاهر وأن الصحابة كانوا يتبركون به ؟
وكان يمكن لفضيلة المفتى ألا يجيب الرجل متجاهلا سؤاله إذ أنه سؤال لا يترتب عليه أي عمل عقائدي أو عملي فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ودفن ولم يعد لبوله وجود ..أو كان يمكن أن يصرف السائل إلى البحث عما يفيده و يفيد مجتمعه من قضايا بدلاً من الانشغال فى مثل هذه الأمور المثيرة للجدل .
وكان يمكن وقد أجاب بما أجاب أن يتجاهل تضمين هذه الفتوى فى كتابه عن الفتاوى العصرية إذ لا أدرى ما هي العصرنة فى مثل هذه الفتوى وما هي حاجة الناس لمثل هذه الفتاوى فى دينهم وعقيدتهم .
ولكن شاءت إرادة الله أن يفتى سيادته بهذه الفتوى ويضمنها كتابه .
وهكذا اكتشف الصحافيون هذه الفتوى فى كتاب الفتاوى العصرية بعد أربع سنوات كاملة من طباعته وتداوله فى الأسواق ليندلع حريق هائل فى وسائل الإعلام المختلفة وضجيج ملأ أعمدة ومقالات وتحقيقات صحفية تجاوزت كل أخلاق وذوقيات الكتابة حتى نشر أحد سفهائهم عنوانا رئيسيا فى صحيفة مشهورة يقول " فتاوى الصرف الصحي " وحتى تورط بعض العلماء فى هذه الهوجة دفاعا أو هجوماً ومنهم فضيلة المفتى نفسه بالطبع .
ولأننا اعتدنا أن مثل هذه المهرجانات والحملات الصحفية تحمل داخلها عادة غير ما تظهر فقد بدأنا نتساءل ..لماذا ؟
- هل وجد الكتاب المعادون للفكرة الإسلامية فى هذه الفتوى فرصة لتحقيق المزيد من التشويه والهجوم على الإسلام من خلال الهجوم على فضيلة المفتى وفتواه الشهيرة وتابعهم فى ذلك بعض حسنى النية بحجة الدفاع عن صورة الإسلام ؟
- هل ضايق البعض علو نجم فضيلة المفتى فى الإعلام بقنواته الأرضية والفضائية ووسائل الإعلام المختلفة فأراد أن يجعل من هذه الفتوى فرصة لتحطيمه كما فعلوا من قبل مع الدكتور عمارة والدكتور القرضاوى والأستاذ عمرو خالد وغيرهم من نجوم الإعلام الإسلاميين ؟
- هل هناك أحداث هامة يراد شغل الناس عن متابعتها حتى تمر فاختلقوا هذه القضايا ليثيروا حولها ضجة تشغل الناس عنها.
- هل تخطي المفتي خطوطا حمراء وضعها بعض أصحاب النفوذ فأرادوا تحريك الإعلام لإعادته خلف هذه الخطوط أو تمهيدا لاتخاذ إجراء معه ووضع المبررات لهذا الإجراء أمام الرأي العام.
- هل كان المفتي ضحية لمنافسات الأقران الذين ضايقهم هذا الانتشار الذي يلقي قبول العامة والحكومة فأرادوا أن يجعلوا من هذه الفتوى فرصة لذبحه .
- [color=#993300]هل وهل وهل كل هذه أفكار وهناك أفكار أخري كثيرة من هذا المعني يمكن أن تكون سببا خفيا وراء هذه الحملة وإلا فقل لي بالله عليك كيف تحول جيش الكتاب والصحفيين الذين طالما أشادوا بتفتحه وعصريته في فتاواه السابقة عن فوائد البنوك وصلاة المرأة إماما وغيرها إلي النفخ في الرماد ليشتعل نارا لإحراق المفتي الرجعي المتخلف الذي يشوه صورة الإسلام العظيم كما يقولون.[color:5a1d=navy:5a1d]
الحق أنني لا أصدق أن كل هذا الضجيج بسبب هذه الفتوى وإلا فما أتفه صحافتنا بل وإعلامنا كله الذي شارك في هذه المعركة المفتعلة ورحم الله المتنبي شاعر العربية العظيم وهو يشهد معركة من جنس هذه المعارك حول قص الشارب أو إطلاقه فقال
هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها