الدنيا والآخرة ليسا ضدين أوندين
في التشريع الإسلامي ليست الدنيا والآخرة ضدين أو ندين وتعامل المسلم مع الدنيا ليس تعامل الغريب عنها ولا المطرود إليها،ولا المعاقب فيها...هي ليست في شرع الله ملعونة،علينا أن نزهدها ونهملها،وإنما هي سبيل إلى الآخرة يؤدي إليها ويتصل بها،ولا بد في تعاليم الإسلام أن تكون هذه السبل نظيفة،متسقة،مستقيمة،وليس ما يمنع في أن تكون محفوفة بالأزهار والرياحين.
قال تعالى:
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا،وأحسن كما أحسن الله إليك}.
إن الدنيا والآخرة في التشريع الإسلامي-الذي هو عقيدة وشريعة-يتكاملان ،وهذا التكامل من مميزات هذا الدين القويم،ومن هذا المنحى نجد الإسلام قد رفع كثيراً من الأعمال الدنيوية إلى مستوى العبادات،فلا يعمل الإنسان عملاً يبتغي به وجه الله تعالى إلا ويثاب عليه،كما يثاب على الصلاة والصوم وحج البيت،بل إن في السنة المشرفة من الأحاديث النبوية ما يعلي قدر العمل الصالح على العبادة.يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين،ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين)) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث آخر:((عدل ساعة خير من عبادة عشر سنين)).
وإن المرء ليثاب على اللقمة يرفعها إلى فم امرأته.وفي القرآن الكريم:{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس،أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة 177)
تحدث الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل،سأل النبي عليه الصلاة والسلام:من يقوم عليه؟..قالوا:أخوه..قال:أخوه أعبد منه.
ومرة خرج رسول الله إلى غزوة فأفطر بعض من معه ليقوموا بما يلزم من عمل،فعملوا بنشاط طوال يومهم،فلما جاء موعد الإفطار قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((لقد ذهب المفطرون بثواب اليوم كله)).
ومن هنا فإن السعي في الحياة الدنيا هو السبيل للوصول إلى حياة هانئة في الآخرة اذ لا يمكن القفز إلى النعيم من فوق هذه الدنيا ولا يكون هذا بإهمال الحياة وتحقيرها،والكف عن العمل فيها.
قال تعالى:
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}.وفي قوله تعالى((والطيبات من الرزق))هي التي تنفي وتستبعد كل ما كان خبيثاً.وهذا هو الحد الفاصل بين ما ينبغي للناس أن يزهدوا به ويرفضوه،وما يحق لهم أن يأخذوا وينعموا به.
فإذا ترك الإنسان الدنيا وانحاز إلى مفاهيم وقيم اصطنعها وبسببها نبذ الحياة واعتزل الناس أملاً للوصول إلى تحقيق ذاته،مثل هذا ما أراده الله للإنسان حين جعله الله خليفته في الأرض يعمرها بالخير ويمدها بالمعروف.
إن الدنيا لم تخلق ليبصق عليها،بل ليعمل الإنسان ويسعى في أرجائها حتى يزيدها بهاء ونمواً وتألقاً.
ومن أجل هذا جاء الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين..إن الدين لم يأت ليبارك المنقطعين عن الدنيا بل جاء ليكون الناس في الدنيا عاملين فيها وساعين لعيشة راضية وحياة حافلة،وما كان الدين أبداً عقبة في سبيل الحياة ومستلزماتها.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً تشققت يده من العمل فشد عليها مباركاً قائلاً لصاحبه :
((هذه يد يحبها الله ورسوله))،ويقول في نفس المعنى:((من أمسى كالاً من عمل يده،أمسى مغفوراً له))،وقال:((إن الله يحب العبد المحترف))،وقال:((إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصوم ولا الصلاة.
قيل:فما يكفرها يا رسول الله؟قال:الهموم في طلب العيش)).
وعندما مر على النبي الكريم رجل رأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه في الكسب والارتزاق ما جعلهم يتحدثون فيه،قالوا:يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله.فأجاب عليه الصلاة والسلام:
((إن كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله،وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله،وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))…ثم يتنقل الرسول إلى أمر الدفاع عن النفس والعرض في الدنيا فيراه جهاداً في سبيل الله يثاب عليه الإنسان ثواب من قتل وهو يدافع عن دينه وعقيدته.يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من قتل دون مظلمة فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد).
ويصل الإسلام إلى أعلى غاية في هذا الصدد حيث جعل نصرة المظلوم في الدنيا عبادة،وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب عبادة،وبناء المدارس والمستشفيات عبادة،وتشييد المدارس عبادة،واستنبات الأرض وزراعتها عبادة،وإماطة الأذى عن الطريق عبادة،وأن تبش في وجه أخيك صدقة،وأن تجمع ولا تفرق،وتبني ولا تهدم كل هذا عبادة بل كل ذلك في سبيل الخير العام للمجتمع وللناس هو في شرع الله معيار يحدد شرف الإنسان ومكانته عند الله والناس.
وهكذا فإن كل جهد مبذول وعمل وسعي وحركة ومتعة مباحة،يثاب الإنسان عليها ما دام قد خلت من مضرة الناس،وأدت إلى إسعاد القائم عليها،وجعل الحياة لطيفة ومقبولة ونظيفة.
من كل هذا ومن خلال الآيات والأحاديث التي مر ذكر بعضهاتتضح الصلة بين الدنيا والآخرة،والناس كما نعلم لا يستطيعون أن يقفزوا إلى الآخرة من فوق الدنيا،إذ لا بد لهم أن يسلكوا إلى الآخرة طريق الدنيا،وأن يسيروا فيه إلى آخره،ولهذا فلا يحل لهم أن يتركوا في هذا الطريق أوحالهم وأقذارهم لأنهم لا يسيرون فيه وحدهم،إنما يسيرون فيه مع غيرهم،ومن ثم وجبت عليهم رعايته،فكلما وسعوا فيه وجملوا جعلوا أخرتهم واسعة جميلة.
صحيح أن الدنيا دار سفر،ولكن ليس ما يمنع شرعاً أن تكون هذه الدار داراً مريحة،فالإنسان لا يعرف كم يطول بقاؤه فيها جاء في الأثر الإسلامي:اعمل لدنياك كأنك تعيش فيها أبداً واعمل لآخرتك كأنما تموت غداً.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت حياته ترجمة حية لكتاب الله والأسوة والقدوة لكل المؤمنين لم يزدر الطيبات من متاع العيش بل سعى إليها سعي الأخيار بوسائل الأخيار،لأنه كان يرى الله في كل ما يعمل في دنياه.
لم يمانع الرسول أن تستمتع بدنياك أيها المسلم طولاً وعرضاً وأن تضرب في مناكب الأرض استخلاصاً لما على ظهرها،وما في باطنها، من كل شيء…افعل ما تهفو إليه نفسك من مأكل ومشرب وملبس،والتمس ما شئت من الملذات من وجهها المشروع،لا حرج عليك ولا تثريب،ما دام ذلك منك في غير عدوان ولا سرف ولا ظلم.
لقد أفاد المسلمون من اتصال دنياهم بآخرتهم أكبر النفع،ذلك لأن الواحد منهم كان لا يعمل العمل إلا ويفكر في جوانبه المعنوية وآثاره الروحية،وفي نتائجه الخلقية،فلم تتجرد الأعمال عن نتائجها ودوافعها عند المسلم قط(إنما الأعمال بالنيات)وبهذا ارتفعت دنيا المسلمين عن هذا الصراع المادي البحت الذي من خلاله يود الواحد من هؤلاء أن يصل إلى غايته ولو على حساب الآخرين أو سمعتهم،ومهما كان الثمن الذي يدفعه الآخرون والألم الذي يتحملونه.
أما في دنيا المسلمين فالقواعد والأسس المقررة في الدار الأولى تجعلها أقرب ما تكون من الدار الآخرة،حيث المؤمنون أخوة متحابون نزع من قلوبهم الغل والحسد والضغينة،وما فيه أذى للآخرين.
صحيح إن الدار الآخرة هي المثل الأعلى عند المسلمين ،لكن العمل الفردي الذي يقوم به الإنسان لا ينظر إليه مجزأ،بل ينظر إليه على أنه حلقة من سلسلة غايتها الوصول إلى المثل الأعلى وهي الدار الآخرة،لهذا فسعي الإنسان المسلم من أجل الرزق،وسعيه من أجل العلم،وزواجه ورعاية أسرته،وحربه وسلمه،وبيعه وتجارته،وشراؤه وإيجاراته،وما يجمع من مال وما ينفق منه،كل هذا يقاس بمقياس الآخرة،مع أنه يجري في الدنيا،فإذا هو قد اكتسب قيمة لم تكن له،وارتقى درجات عن طبيعته المادية المجردة.
إن المسلمين الذين لم يرفعوا أعينهم عن الدار الآخرة كانوا لا يدخرون وسعاً في أن يصلوا بأعمالهم في الدنيا إلى أقصى غاية من التجويد والإتقان مدفوعين بذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)).
لقد ازداد المسلمون حباً لدنياهم من خلال إدراكهم لواجبهم فيها وحرصاً منهم على أن يسودها جمال ونظام واتساق،وبهذا أصبحت ذات معنى أكبر من معناها عند غير المسلمين،فهي-أي الدنيا-ليست غاية في ذاتها عندهم،بل وسيلة لشيء أكبر منها واعظم وأخلد.
ومن خلال اتصال الدنيا بالآخرة زين للمسلمين حب المعرفة والنظر في أنفسهم وفي الآفاق وفي الكون
{قل انظروا ما في السموات والأرض}،وفي آية أخرى{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}.
ومن ثمرات ما تعلموه-من كون دنياهم طريقاً إلى الآخرة-ما يعرف بعقيدة التوكل،وأنه لا يصيب الإنسان أمر إلا وهو مكتوب عليه،فلا مكان إذاً لخوف وإجفال،ولا مجال للتردد عن سعي ومثابرة واجتهاد وانتقال من مكان إلى مكان،ومن بلد إلى بلد ومن مواجهة الظالم ومن الدعوة إلى الخير ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،قال تعالى:{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}.
وإذا كان أكثر ما يخافه الناس هو الموت ومفارقة الدنيا فإن الموت عند المسلم ليس مما يخشى منه،طالما زرع الإنسان في دنياه العمل الصالح والخير والمعروف وأدى أوامر ربه واجتنب نواهيه،الموت هنا وبهذه النظرة تحفة المؤمن وراحته.يقول تعالى:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالواحسبنا الله ونعم الوكيل}.
وجملة القول:إن اتصال حياة المؤمنين بآخرتهم رفع من شأن حياتهم،وأسبغ عليها من السمو والرفعة،والنظافة والأناقة والنظام والاتساق،ما تسبغه المثل العليا على المتمسكين بها والعاملين لها ونفى عنهم العادات السلبية والآفات الخلقية،وأعفاهم من الدنايا والمهاترات التي يتردى فيها أبناء المجتمع الذي لا يعرف إلا الأعراض الفردية والدوافع الشخصية والتكالب على المال والتنافس الحاد والعنيف من أجل الجاه والسلطة.أصبحت حياتهم وبما تعلموه من دينهم جميلة يؤنسها أمل،ويضيئها مثل،ويتوجها هدف،وكذلك استطاع المسلمون وبهدي إيمانهم أن يكونوا علماء حكماء،يكشفون حقائق الكون،يؤلفون ويترجمون يعطون ويأخذون،يقدمون للبشرية حضارة لا أعرق منها ولا أعظم،طابعها إنساني،وجوهرها مثالي واقعي.
ثم يزودون بالشجاعة فلا يقعدون عن مواجهة المخاطر يخوضون مجاهل البحار والبقاع،ويخضعون أمواج البحار والمحيطات لسفنهم وأساطيلهم،ويحسون أن هذا العالم قد سُخِّر لهم حقاً،وأنهم مدعوون دوماً إلى الاتصال به والنظر فيه فأجابوا الدعوة،وغدوا للأمم قادة ورواداً،وما زال مثلهم يوحي إلى النفوس بالإيمان والسعي الجميل من أجل أعلى المثل وأنبل الغايات،اللهم اجعلنا من المؤمنين العاملين المخلصين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين