طريق التفكير
في مشروع الوحدة(*)
السيد محمد حسين فضل الله
الوحدة بين الحلم والواقع
مداخل إلى حلول واقعية
الوحدة من خلال القضايا المصيرية وتلافي الثغرات
الوحدة بين الحلم والواقع(1)
أودّ أن أثير التفكير حول طريقتين في أسلوب مواجهتنا لقضايانا العامة المتصلة بحركة الأهداف الكبيرة في حياتنا، سواء في ما نثيره من قضايا الوحدة على مستوى الطائفة أو الإقليم أو الأمّة أو الحزب وما إلى ذلك، أو ما نثيره من قضايا المصير الأخرى المرتبطة بمواجهة التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية، المفروضة من جانب المحاور الداخلية أو الإقليمية أو الدولية.
أولاً: الطريقة الحالمة
أولى هذه الطرق هي تلك التي تتعاطى مع المشروع أو الهدف الكبير بشكل عاطفي انفعالي، غارق في ضباب الأحلام الوردية التي يحلِّق معها الإنسان في عالم من السحر السابح في الخيال..
وتتميز هذه الطريقة بالتفكير المطلق الذي يتعامل بالتبسيط الساذج مع كلّ المشاكل التي تعترض حركة الوصول نحو الهدف، وذلك باعتبارها مشاكل بسيطة يمكن للزمن أن يحلها، أو للأجواء الشعبية الحماسية أن تخفف الكثير منها. وهكذا يشعر السائرون في هذا الاتجاه بأنَّ المشروع لا يواجه أية مشكلة، بل سرعان ما يواجهون كلّ علامات الاستفهام التي يثيرها الآخرون حول جدية المشروع وواقعيته، باعتبارها لوناً من ألوان التشاؤم أو الانهزامية، أو الحالة العدوانية ضدهم. وربَّما يتحرك هؤلاء بطريقة انفعالية حماسية من خلال الظروف القلقة التي تساعد على هذا التحرك في نطاق المرحلة، فيحققون نتائج كبيرة على مستوى المساحات الواسعة التي يقطعونها، والنتائج الإيجابية التي يحصلون عليها، والأهداف المرحلية التي يحققونها، فيغريهم ذلك بالاندفاع بشكل أكبر، باعتبار أنَّ ذلك يمثل البرهان على نجاح الخطة وواقعية التجربة..
وقد يعتبرون أنَّ إثارات المثبطين لم تنتج من حالة واقعية شاملة، بل كانت منطلقة من التربية التقليدية الهادئة التي عاشها هؤلاء، فخُيِّل إليهم أنَّها الطريقة الوحيدة للتحرّك. وإذا وقعوا في بعض المشاكل الصعبة أو واجهوا بعض الهزائم، فإنَّهم يملكون لها تفسيراً واحداً، وهو الظروف الطارئة والقوى الغاشمة التي لا يستطيعون مجابهتها الآن، ولكنّهم يستطيعون مجابهتها غداً أو بعد غد. أما كيف ذلك؟ فإنَّهم يجيبون: هذا ما يمكن أن نفكر به في المستقبل، لأنَّ القضية هي أن تظل القافلة تسير، وليس المهم أن نفكر كيف تسير.
وقد نجد من خصائص هذه الطريقة العمل على إثارة الجماهير بالخطب الحماسية والشعارات المثيرة والمهرجانات الصاخبة، ما يجعلها تصفق لبلاغة هذا الخطيب، وتهتف لحماسة ذاك القائد... وهكذا تبقى القضية لديهم هدفاً يبحث عن طريق، ودوراً يبحث عن ساحة..
ثانياً: الطريقة الواقعية
وهي الطريقة التي تواجه الهدف بمنطق الواقع، فلكلّ ظاهرة أسبابها الكافية في الواقع، ولكلّ واقع ظروفه المحدودة بالزمان والمكان والأشخاص، ولكلّ هدف وسائله ومراحله وآفاقه. ولذلك فإنَّ الذين يفكرون بهذه الطريقة يعملون على دراسة المشروع من خلال معرفة الأرض التي يقوم عليها، والشروط التي ينبغي توفرها، والأشخاص الذين يتحركون معه في الداخل والخارج، والمشاكل التي تواجهه على جميع المستويات، ثمّ يرسمون الخطة على أساس ذلك، وتتقدم الخطّة في بعض المراحل، وتسقط في البعض الآخر؛ فلا يسقطون أمام سقوطها، ولا يحاولون أن يحمِّلوا الآخرين مسؤولية السقوط، بل يعملون على دراسة أسباب الفشل في الواقع، ليعدّلوا الخطة ويطوّروها، ليصلوا بها إلى النتائج العملية في نهاية المطاف.
وتتميز هذه الطريقة بالتأكيد على التحليل الدقيق للأشياء والأشخاص والواقع، ومواجهة الأخطاء بشجاعة، والبعد عن أجواء الاستعراض وعن ذهنية التبسيط. وعندما تفكر هذه الفئة الواقعية بالحماس، فإنَّها تفكر به كجزء من الخطة، لا كحالة مزاجية طارئة. وهكذا يملك القائمون عليها وضوح الصورة، وواقعية التفكير، بعيداً عن كلّ أجواء الأحلام والسرعة والارتجال، وعن كلّ ألوان التفسير الغيبي للأشياء، ما يوفر لهم الكثير من الوعي والصبر والهدوء، في مواجهة المشاكل والتحديات، والشجاعة عند الوقوع في الأخطاء، للاعتراف بها، ومواجهتها بالمزيد من عمليات النقد والتصحيح.
هاتان هما الطريقتان اللتان تحكمان الواقع العملي للإنسان، فأين نحن منهما الآن في ما نستهدفه من التفكير بالوحدة؟
بين حلم الوحدة وسجن الخصوصية
لعلّ الوحدة في أكثر من موقع في حياتنا هي أكبر حلم للإنسان في كلّ مجتمع يعاني من التجزئة، لا سيما إذا ما كانت هذه التجزئة وضعاً طارئاً فرضته ظروف تاريخية وسياسية وثقافية، وحتى اجتماعية واقتصادية معينة.
لكنَّ هذا الحلم سرعان ما كان يصطدم بعناصر التجزئة التي تحولت إلى عقدة شعورية في داخل إنساننا، الأمر الذي جعله يعيش بين تجاذبين؛ الأول يشده إلى العقدة التي تجره إلى الخصوصية لتسجنه في داخل ذاته، والثاني يشده نحو الحلم الذي يرتفع به إلى الشمولية ليطير به إلى أجواء المطلق. وقد خلق ذلك لديه ارتباكاً بين ما هو الواقع وما هو الحلم، حتى إذا انتصر الحلم في وعيه، مشى إليه بعيون مشدودة إلى السماء لا تبصر ما في الأرض من مشاكل وحواجز، ولذا كان الحلم يسقط، باستمرار، صريعاً أمام ضغط واقع الخصوصية. فلماذا كان ذلك؟
قد تكون المشكلة في أنَّ الإنسان حمل هذا الحلم الكبير كعنوان عام، ولم يحمله في حياته كتجربة حيّة مستقلة بعيداً عن أجواء الخصوصية، بل على العكس، حوّله إلى شأن من شؤونها، حتى كاد أن يتحول إلى واجهة لها. ولذلك، لم يعش الإنسان الشمولية إلاّ من خلال الخصوصية، ما جعل حماسه للخصوصية أكثر من حماسه للعمومية، انطلاقاً من الحالة الشعورية التي تخلقها التجربة.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إنَّ الوحدة لم تنطلق من تصور فكري أو روحي للقاعدة التي يفترض أن ترتكز عليها، بل انطلقت من حالة ذاتية عاشت ردود فعل قاسية أنتجتها مشاكل التجزئة، لكنَّ غياب التصور، وعمق الذهنيات الانقسامية على مستوى الشخصيات المتعددة التي تتحرك في الساحة، كانت تولّد المزيد من السلبيات العملية في الحاضر والمستقبل، ما يجعل الصورة التي يتطلع إليها الإنسان الوحدوي، صورة غائمة، لا تغريه بالمزيد من الاندفاع، ولا تدفعه لتقديم الكثير من التنازلات الخاصة لحساب القضية العامة.
وهذا ما عشناه عندما انطلقت فكرة الوحدة الإقليمية في البلد الذي تتعدد فيه القوميات والطوائف، أو الوحدة العربية في المنطقة التي تنوّعت فيها الأقاليم، أو الوحدة الإسلامية في الساحة التي تختلف فيها المذاهب. فقد كانت الوحدة حلماً للروح يبحث عن الأفق الذي يتخلص فيه من مشاكل الواقع التجزيئي والتعددي، ولكن المعالجة كانت دائماً تأتي من خلال الفكرة الغائمة التي توحي بأنَّ التعدد هو المشكلة، وأن حل المشكلة هو بالخلاص منه، دون دراسةٍ لعلاقة المشكلة بالتعدد في مواجهة مشاكل الوحدة. وقد يدفعنا ذلك إلى الابتعاد عن فهم الأسس الواقعية للمشكلة التي قد تكون خاضعة لمؤثرات ذاتية في حركة الواقع الداخلي، بعيداً عن قضية التعدد والوحدة، في طبيعة المسألة المطروحة على الساحة..
وقد نكتشف في نهاية المطاف أنَّ الوحدة لم تكن حالة فكرية روحية عميقة، بل كانت حالة انفعالية عاطفية سريعة، بينما مثَّلت التعددية أو التجزيئية عمق التجربة التي ارتبطت بها كلّ قضايا الإنسان اليومية، وكلّ علاقاته الاجتماعية، ما عجّل بهزيمة الوحدة بشكل سريع أمام عوامل التجزئة، كما لاحظناه في أكثر من عمل وحدوي سياسي انطلقت به الجماهير في صرخة راعدة واعدة، ولكنَّها تراجعت بشكل سريع ضاغط، لتكتشف أنَّ الحلم الكبير لم يكن إلاَّ كابوساً مرعباً في ما يتمخض به الواقع من مشاكل وأوضاع.
قضية الوحدة في ضوء الواقع
تلك هي بعض الأفكار التي حاولت إثارتها أمام الموضوع لنواجه تفصيلات المسألة بعد ذلك من خلال عملية رصدٍ للواقع.
لقد مرّت فكرة الوحدة الإسلامية في حياة المسلمين بتاريخ طويل من الدعوات الإصلاحية التي انطلق بها المصلحون، في ما كانوا يثيرونه أمام الأمّة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إلى الوحدة، التي قوامها الاعتصام بحبل اللّه، والالتقاء على رسالته، والبعد عن التنازع والاختلاف الذي يبعثر القوى ويضيّع الطاقات، ولكنَّ ذلك لم يغير من واقع التجزئة شيئاً، بالرغم من الحماس الذي تثيره الخطابات الحماسية والمواعظ الانفعالية في نفوس النّاس، فقد كان ذلك الجو يهدأ ويخف تدريجياً حتى يتبخر في الهواء ويرجع كلّ فريق إلى قواعده سالماً؛ فلماذا حدث ذلك؟
ربَّما كان بعض السبب هو في أنَّ الدعوة إلى الوحدة كانت ردَّ فعل ولم تكن فعلاً، في ما كان يعيشه العاملون من الحالة المعقدة على المستوى النفسي والحياتي في واقع المسلمين، ما كان يؤدي إلى التنازع والتحاقد والتقاتل على أساس غير معقول، كأن يواجه المسلمون بعضهم البعض بأساليب التجريح والتنكيل بعيداً عن كلّ عقلانية أو موضوعية أو إيمانية، فيسقطون بذلك في ساحات الصراع تحت تأثير النتائج السلبية، ليكونوا فريسة سهلة لكلّ لاعب ومحتلّ وغاصب. وهكذا كان العاملون يواجهون ذلك كلّه بالثورة على الواقع، تماماً كما هي الحالة النفسية التي تريد أن تتخلص من المشكلة بأيّ ثمن، وبشكل سريع، ولهذا كان الحماس في أساليب الدعوة هو الطابع الغالب لكلّ هذا الخطّ.
على أنَّ هذا الفشل في الدعوة إلى الوحدة، كان يواجَهُ بإلقاء اللوم على الشعب الجاهل المتخلف الذي لا يعي مشاكله الحقيقية، ولا يتطلّع إلى آفاق المستقبل بوعي، أو بتحميل الاستعمار مسؤولية ذلك كلّه على أساس سياسته المعروفة (فرّق تسُد).. وربَّما كانوا يرتاحون لهذا التبرير الذي يوحي لهم بأنَّهم قد قاموا بواجبهم خير قيام.
وربَّما نلاحظ في هذا الاتجاه، أنَّ مثل هذا الأسلوب في الدعوة إلى الوحدة، غير المدروس بدقة وشمولية، قد يخلق حالة تراجعية لدى النّاس، عندما يلاحظون عدم جديتها، أو عدم واقعيتها، فيخافون من الضياع أمامها، فيرجعون إلى مواقعهم المذهبية بشغف واندفاع وخوف، تماماً كما يفعل الطفل الخائف من التهاويل الغامضة المحيطة به عندما يفزع بكلّ لهفته وخوفه إلى حضن أمّه، ما يقوّي الروح الانقسامية أكثر، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وكان يعزّز هذا المناخ التقسيمي، اتهامات بعض النّاس المتحمسين لمذهبيتهم الضيقة للعاملين في سبيل الوحدة الإسلامية بأنَّهم منحرفون عن خطّ المذهب لأنَّهم وحدويون، كما لو كانت الوحدوية جريمة تعني المروق من الدين.
نظرة واقعية إلى سلبيات الدعوة المثالية
إذا أردنا التوقف عند ملامح الدعوة المثالية إلى الوحدة، وتوقفنا عند النقاط السلبية في أسلوبها العملي، فإنَّنا نجد فيها ملامح الدعوة التي تحلّق في الفضاء ولا تتحرك على الأرض، لأنَّ من أبسط القضايا التي يجب أن ندركها، هي أنَّ التاريخ المعقّد الذي عاش المسلمون مشاكله الدامية، وأساليبه المتخلّفة، ومواقعه القلقة، لا يمكن إلغاؤه بخطبة بليغة أو حركة سريعة، لأنَّ الرواسب التي يتركها في الأعماق من مشاعر وأفكار وتعقيدات، تخلق حاجزاً نفسياً مقدساً ضد الفريق الآخر، وتنقل الصورة في منهج التفكير من موقع الاجتهاد في فهم العقيدة أو الشريعة الذي يفسح المجال لاجتهاد آخر مخالف له، على أساس إمكان اختلاف وجهات النظر في فهم المسألة الواحدة إلى موقع التأكيد على نفي الإسلام عن الفريق الآخر، لأنَّ الخصوصية تحاصر الشمولية، والجزئيات تطوّق الكليات..
وبذلك يتحول المذهب إلى دين مميز، تماماً كالدين الذي يتميز عن دين آخر، ويعود الارتباط بالشخصيات الإسلامية سلباً أو إيجاباً عنصراً من عناصر تحديد الشخصية الإسلامية فيمن هو المسلم أو فيمن هو غير المسلم.
فإذا التقيت بالواقع في الحاضر، فستجد أنَّ الفرز المذهبي قد تحول إلى حالة طائفية تشبه الحالة العشائرية في أفكارها وعواطفها ومواقعها ومواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأصبح لهذه الحالة مصالحها الخاصة في مواجهة كلّ فريق للفريق الآخر، ما جعل الشخصية الضيقة تتعمق أكثر في الانحراف عن خطّ الوحدة استناداً إلى امتيازات مزعومة لهذا الجانب أو ذاك، بعد أن كان الانقسام يتمحور حول الأفكار والمقدسات. وهكذا رأينا أنَّ العلاقة بين الطوائف قد تحولت إلى ما يشبه العلاقة بين الدول، فلكلّ منها منطقته الخاصة التي لا يجوز للآخرين التدخل في شؤونها أو الامتداد إليها، ولكلّ منها أوضاعه الداخلية التي لا يجوز المساس بها من الفريق الآخر.. وهكذا أصبح للساحة أحاسيسها الملتهبة التي يمكن أن تشعل الحريق لأول بادرة نزاع أو خلاف.
وتدخلت المحاور السياسية في الساحة، على المستوى الإقليمي أو الدولي، ما جعل الجانب المذهبي يدخل في الحسابات السياسية كأداة من أدوات التفجير هنا، أو كوسيلة من وسائل تسليط الأضواء هناك، وذلك من خلال سياسة التخويف التي تتحول إلى لون من ألوان الخوف المتبادل الذي يثيره هذا المحور أو ذاك، لتكون النتيجة أن تتحرك الحالة السياسية لتفرز حالة مذهبية، ويتطور الخلاف السياسي ليتحول إلى خلاف مذهبي، ودون أن تُعرف طبيعة العلاقة بين هذا وذاك، إلاّ من خلال الحساسيات الذاتية التي يحاول الكثيرون تحويلها إلى حساسيات طائفية.
هذه هي بعض ملامح الواقع الذي تحرك من التاريخ إلى الحاضر، وتطور حتى أصبح صورة من صور تعليب الشخصية الإسلامية في داخل العلبة الطائفية، بحيث لا يشعر الإنسان معها أنَّه يتفاعل مع روح الإسلام فيها بقدر ما يتفاعل مع أحقاد الطائفة وحساسياتها. والسؤال: كيف يمكن لنا أن نهمل ذلك كلّه أو نتناساه في حركة الوحدة الإسلامية؟ وهل يمكن أن نحقق خطوة واحدة إلى الأمام في مثل هذه الساحة؟
من مقاييس الدين إلى مقاييس الطائفية
قد لا يكون هذا هو كلّ الواقع، ولكنّنا نشعر أنَّه يشغل الساحة الكبيرة للساحة الإسلامية. وبذلك يكون القفز عنه بمثابة القفز عن المشكلة بالأساس، والتعامي عن مواجهة جذورها الحقيقية في الواقع، ما يجعل من المحاولة هروباً من المشكلة لا حلاً لها، وهذا ما اعتبرناه لوناً من ألوان المثالية في تصور الحل للمشكلة، فلا الاستغراق في الغيب عند مواجهة الصعوبات والتعقيدات المطروحة على الساحة، ولا توجيه الأنظار إلى غيرة المسلمين على إسلامهم وضرورة وحدتهم أمام عدوّهم، ولا انتظار الظروف الملائمة، والاعتماد في الوصول إلى النتائج على عامل الزمن، تشكل عوامل جذرية لمعالجة المشكلة.
إنَّ واقعنا بات موغلاً في الطائفية، فهي التي تحدد الأعداء أو الأصدقاء من مقاييس الطائفة لا من مقاييس الدين، حتى أنَّ محوراً سياسياً إذا اتفق مع طائفة ما لتحقيق مصالحها في مواجهة الطائفة الأخرى، فإنَّه يعتبر صديقاً لها وإن كان عدوّاً للأخرى، وإذا كان الأمر كذلك، فأين يكون العدوّ الواحد؟ وكيف نتصور الغيرة على الإسلام إذا كنت لا أعتبر المسلم الآخر مسلماً، وبالتالي فلا يكون اضطهاده منافياً للإسلام والدفاع عنه دفاعاً عن كرامة المسلم؟ وهل يمكن أن يحمل لنا الزمن إلاّ تأكيداً لمثل هذه الأجواء ما دامت المقدمات تتحرك في طريق تحقيق تلك النتائج؟
الإسلام قاعدة الوحدة
هل هذا الذي نثيره يمثّل لوناً من ألوان التشاؤم؟ إنّنا لا نريد ذلك، ولكنّنا نريد أن نتلمس الواقع بطريقة ميدانية، فكيف يمكن أن نفكر؟ قد يكون من الخير لنا اعتبار أنَّ أي عمل وحدويّ لا بُدَّ أن ينطلق من الاهتمام بالقاعدة التي ترتكز عليها الوحدة، لنعرف ما إذا كانت تتسع لخطّ الوحدة أو تضيق عنه. وقد لا يكون من الصعوبة اكتشافنا أنَّ الإسلام هو تلك القاعدة، ولكن كيف لنا أن نثير الاهتمام به لنعرف كيف يمكن أن تكون الوحدة حركة إيجابية في وجوده، وكيف تكون التعددية حركة سلبية في ذلك؟
ربَّما كان المسلمون غير بعيدين عن الاهتمام بالإسلام، ولكن بطريقة عاطفية، لأنَّ الكثير منهم قد لا يجدون له معنى في حركة الحياة، بل كلّ ما هناك أنَّه يمثّل حالة في وعي الذات، ولذا فإنَّه لا يتصل بالواقع في حركة فعل، بل يتصل بالذات في انطلاقة وجدان، ولهذا، فقد تحوّل الاهتمام به إلى اهتمام بالصورة العبادية والأخلاقية الغائمة من جهة، وبالصورة الاجتماعية المشوّشة من جهة أخرى. وبذلك كانت قضية الوحدة تتعلّق بالجانب الفردي من ناحية الفكرة، وبالجانب الاجتماعي من ناحية الانتساب، ما يجعلنا نواجه التعددية خارج نطاق المشكلة الحياتية الفكرية والعملية في ما نختلف فيه، وبذلك لا يعني الفرز الطائفي لنا شيئاً في حركة الحياة من حولنا، لأنَّ بإمكاننا أن نتمحور عند ذلك في أي محور سياسي أو اجتماعي آخر، دون أن يسيء ذلك إلى عملية الانتماء الفكري في طبيعة المضمون، ما يجعلنا لا نمتنع عن الاندماج العملي تحت أية صفة أخرى على مستوى الوطن أو الإقليم أو القومية أو أي شيء آخر، وبذلك تفقد صفة السنية أو الشيعية أي مضمون لها في ما يتصل بواقع النّاس، لأنَّها لا ترتبط بأي شيء خارج نطاق الذات، وتبقى لأصحابها صفة النسب الطائفي المشترك في المسألة الإنسانية الاجتماعية(1).
التجمد عند الفهم التقليدي للإسلام
ولعلّ هذا ما جعل عملية اللقاء على أساس الإسلام لا تعني شيئاً للكثيرين، إلاّ بقدر ما يعنيه اللقاء تحت أية صفة أخرى تتصل بالظروف الموضوعية لحركة الشخصية أو لحركة الحياة، كالإقليمية أو القومية أو الحزبية. وبذلك قد تتقدم أية صفة أخرى على صفة الإسلام كإطار جامع تبعاً للأجواء السياسية التي تحيط بهذا البلد أو بذاك، فإذا كان النظام السياسي ينطلق من حالة وطنية أو قومية، كانت الوحدة الإسلامية مرتبطة بعلاقتها سلباً أو إيجاباً بتلك الحالة، وإذا كان ينطلق من حالة طائفية على مستوى الدين، فإنَّ القضية تتخذ لها بعداً في المسألة السياسية لتجمع المسلمين في مواجهة غيرهم، أمّا إذا انطلق من حالة طائفية على مستوى المذهب، فإنَّ الوحدة تصبح مشكلة للطائفيين، لأنَّها تتحول إلى عنصر يُضعف من شخصية الطائفة وامتيازاتها في النظام الذي يتحرك على تلك الأسس الذاتية للمجتمع الطائفي. وفي ضوء ذلك، تتحول الحالة الإسلامية إلى حالة تابعة بدلاً من أن تكون حالة أصيلة، وبذلك تكون القضية المطروحة هي قضية تخدير الخلافات والابتعاد بها عن دائرة الضوء، بقدر ما تحتاجه الحالات السياسية الأخرى في الأمّة.
وربَّما كان هذا الفهم التقليدي للإسلام هو الذي جعل المسلمين يتجمّدون في فهمهم للجانب الذي يختلفون فيه، في ما يمثله من مفهوم الالتزام والتقوى، فيُخيّل إليهم أنَّ التعصّب هو الالتزام، وأنَّ الانغلاق هو التقوى، وأنَّ الابتعاد عن الفريق الآخر من المسلمين هو الإخلاص للخط الإسلامي الأصيل... وفي ما يستتبعه ذلك من فقدان العناصر المنفتحة التي تتيح لهم التفكير بالأشياء من الأفق الأوسع، فتراهم يتوقفون أمام كلمة هنا وحركة هناك، ويواجهون التاريخ بسلبياته وإيجابياته من خلال النوازع الذاتية الطائفية التي تجعل الارتباط بالشخصية التاريخية ارتباطاً بالذات، لا بالفكرة، ولذلك فإنَّ الإخلاص لها في ما يطلقونه عليها من نعوت أو يمنحونه لها من أدوار قد يتم في كثير من الحالات على حساب الفكرة. وبذلك استطاعت هذه الذهنية أن تخلق في الساحة تعقيدات كثيرة من خلال بعض السلبيات التي يثيرها هذا الفريق ضد اسم معين، ليقابله فريق آخر باسم آخر..