ا لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن ميمية البوصيري - المعروفة بالبردة - من أشهر المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائة شاعر في معارضتها، فضلاً عن المشطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين، كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن.
يقول الدكتور زكي مبارك:(وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة حاشية الباجوري على البردة،وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، وإنما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة؛ لأن مثل هذا الدرس لم يكن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ)
( 1 ).
وقد أطلق البوصيري على هذه القصيدة "البردة" من باب المحاكاة والمشاكلة للقصيدة الشهيرة لكعب بن زهير t في مدح رسول الله r ؛ فقد اشتهر أن النبي r أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة - إن صح ذلك -
(2) فقد ادعى البوصيري- في منامه- أن
النبي r ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة !!
وقد سمى البوصيري هذه القصيدة أيضاً بـ "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"
(1).
كما أن لهذه البردة اسماً آخر هو البرأة؛ لأن البوصيري كما يزعمون برئ بها من علته، وقد سميت كذلك بقصيدة الشدائد؛ وذلك لأنها- في زعمهم- تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير.
وقد زعم بعض شراحها أن لكل بيت من أبياتها فائدة؛ فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون
(2).
يقول محمد سيد كيلاني- أثناء حديثه عن المخالفات الشرعية في شأن البردة- :
(ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطاً لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها: التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالماً بمعانيها، إلى غير ذلك. ولا شك في أن هذا كله من اختراع الصوفية الذين أرادوا احتكار قراءتها للناس، وقد ظهرت منهم فئة عرفت بقراء البردة، كانت تُستدعى في الجنائز والأفراح، نظير أجر معين)
(3).
وأما عن مناسبة تأليفها فكما قال ناظمها:(كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله r ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت،وتوسلت ونمت، فرأيت النبي r ، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدت فيّ نهضة؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله r ، فقلت: أيّها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أوّلها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله r ، فرأيت رسول الله r ، يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام)
(1).
ففي هذه الحادثة تلبّس البوصيري بجملة من المزالق والمآخذ، فهو يستشفع ويتقرب إلى الله - تعالى- بشرك وابتداع وغلو واعتداء- كما سيأتي موضَّحاً إن شاء الله- .
ثم ادعى أنه رأى النبي r دون أن يبيّن نعته؛ فإن من رأى النبي r حسب صفاته المعلومة فقد رآه؛ فإن الشيطان لا يتمثل به - كما ثبت في الحديث -.
ثم ادعى أن النبي r مسح على وجهه وألقى عليه بردة، فعوفي من هذا الفالج، فتحققت العافية بعد المنام دون نيل البردة ! ثم التقى البوصيري- في عالم اليقظة- بأحد المتصوفة وأخبره بسماع القصيدة بين يدي الرسول r ، وأن الرسول r تمايل إعجاباً بالقصيدة، وهذا يذكّرنا بحديث مكذوب بأن النبي r تواجد عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال:(ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب).
قال شيخ الإسلام:(إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله r وسنته
وأحواله)
(2).
وأما عن استجابة دعاء البوصيري مع ما في قصيدته من الطوامِّ، فربما كان لاضطراره وعظم فاقته وشدة إلحاحه السبب في استجابة دعائه.
يقول شيخ الإسلام:(ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركاً، ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعفُ الله عنه، فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة)
(1) .
وأما عن التعريف بصاحب البردة فهو:محمد بن سعيد البوصيري نسبة إلى بلدته أبو صير بين الفيوم وبني سويف بمصر، ولد سنة 608هـ، واشتغل بالتصوُّف، وعمل كاتباً مع قلة معرفته بصناعة الكتابة، ويظهر من ترجمته وأشعاره أن الناظم لم يكن عالماً فقيهاً، كما لم يكن عابداً صالحاً؛ حيث كان ممقوتاً عند أهل زمانه لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، كما أنه كثير السؤال للناس، ولذا كان يقف مع ذوي السلطان مؤيداً لهم سواءً كانوا على الحق أم على الباطل.
ونافح البوصيري عن الطريقة الشاذلية التي التزم بها، فأنشد أشعاراً في الالتزام بآدابها،